طوفان الأقصى- القضية الفلسطينية تعيد تشكيل أولويات الشرق الأوسط

المؤلف: هشام جعفر09.06.2025
طوفان الأقصى- القضية الفلسطينية تعيد تشكيل أولويات الشرق الأوسط

لطالما كان مفهوم "الشرق الأوسط الجديد" حاضرًا بقوة في النقاشات التي تلت الأحداث الإقليمية الكبرى. ففي عام 2006، ربطت وزيرة الخارجية الأمريكية آنذاك، كوندوليزا رايس، هذا المفهوم بحرب لبنان. وفي عام 2020، أعادت اتفاقيات التطبيع، التي عُرفت باتفاقيات أبراهام، إحياء هذا المصطلح من جديد.

وقبل ذلك، وتحديدًا في عام 1993، ظهر الكتاب الذي ألفه شيمون بيريز، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، ثم جاء "طوفان الأقصى" في عام 2023 ليُعيد تسليط الضوء على المنطقة وما يشهده من تحولات. تبع ذلك أحداث جسام، مثل سقوط نظام الأسد المتوقع في ديسمبر/كانون الأول 2024، والمأزق الإستراتيجي الذي تواجهه إيران في أعقاب تراجع "محور المقاومة" المتوقع في عام 2024، واحتمالية فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية في عام 2025، وكل ذلك حفز النقاشات مجددًا حول حقبة جديدة قادمة للمنطقة.

إن المنطقة، وفقًا للوصف المتجدد الذي لا ينفك يُعاد إطلاقه، تشهد حالة من التحول المتواصل والتغير الدائم، وهو الأمر الذي يعزوه البعض إلى تاريخ طويل من التدخل الخارجي، يعود بجذوره على الأقل إلى أواخر القرن الثامن عشر مع الغزو النابليوني لمصر في عام 1798. لا شك أن هذا التدخل المستمر من قِبل القوى العالمية الكبرى قد لعب دورًا محوريًا في صياغة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في المنطقة.

لقد تشكل الشرق الأوسط الحديث -وما زال- من خلال تفاعل معقد بين ديناميكيات القوة التاريخية، والتدخلات الخارجية المتواصلة، والأوضاع الداخلية المتغيرة باستمرار. وقد كان لهذه العوامل مجتمعة تأثير بالغ على صعود وهبوط القوى الإقليمية والعالمية، وساهمت في إذكاء الصراعات المستمرة، وعززت مشهدًا يتسم بالتحالفات المعقدة، والتأثير الكبير للجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية على حد سواء.

لقد رزحت المنطقة تحت وطأة تدخلات مستمرة من قوى داخل حدودها وخارجها؛ فقد تدخلت القوى العظمى بشكل متكرر في شؤون دول الشرق الأوسط خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وما زال هذا التدخل مستمرًا حتى يومنا هذا في القرن الحادي والعشرين.

لقد مارس النظام الاقتصادي العالمي، الذي انطلق في البداية مدفوعًا بالرأسمالية التجارية والصناعية، ثم بالمالية المتطورة، تأثيرًا عميقًا على المنطقة. هذه التدخلات لا تلغي دور الهياكل الداخلية، لكنها تشكل تفاعلًا مركبًا ومعقدًا بين هذه العوامل جميعًا.

وعلى الرغم من تصاعد الحديث عن "شرق أوسط جديد"، إلا أن العديد من الديناميكيات الموروثة لا تزال قائمة وبقوة، مثل أوجه القصور الملحوظة في مجال حقوق الإنسان، والمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون في العديد من الدول العربية. لا يزال الاستبداد متفشيًا على نطاق واسع، وسوء توزيع الدخول والفرص والثروات ظاهرة مستمرة، والفجوة الشاسعة بين تطلعات الشعوب وبين سياسات الحكام ما زالت قائمة وواضحة للعيان.

ولا يزال التدخل الخارجي المكثف من القوى العالمية والإقليمية يشكل سمة مميزة لما يُسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد". غالبًا ما تدعم هذه الجهات الخارجية فئات ومجموعات محلية مختلفة، مما يزيد من تعقيد الصراعات القائمة، حيث قد لا تتوافق مصالحها دائمًا مع مصالح عملائها المحليين.

لقد ساهم عدم الاستقرار الذي أعقب الانتفاضات العربية فيما يُعرف بـ"الربيع العربي" في نمو الدول الفاشلة، وصعود الجهات الفاعلة غير الحكومية المؤثرة التي تعمل بقدر أقل من القيود، وأصبحت لاعبًا مهمًا في المنطقة، مما أدى إلى تغيير الديناميكيات الإقليمية بسرعة وبشكل ملحوظ.

يتسم الشرق الأوسط في الوقت الراهن بالعديد من السمات البارزة، بما في ذلك إعادة تنظيم إقليمية كبيرة في أعقاب فترة من الصراع المكثف الذي كان عنوانه الأبرز القضية الفلسطينية، والأزمة السورية. وتتضمن إعادة التنظيم هذه ظهور قوى محورية جديدة على الساحة، مثل المملكة العربية السعودية وتركيا، وتراجع نفوذ قوى أخرى، مثل إيران.

لا تزال المنطقة تعاني من الصراعات الممتدة، والتأثير المستمر للجهات الفاعلة غير الحكومية، فضلًا عن الإستراتيجيات المتغيرة باستمرار للقوى الخارجية الطامحة. وفي حين أن هناك هيمنة عسكرية إسرائيلية واضحة للعيان؛ إلا أن هناك إجماعًا متزايدًا في المنطقة على ضرورة الحماية من التوسع والعدوان الإسرائيلي، في ظل استشعار العديد من الحكومات العربية خطر هذا التوسع على الأمن القومي لبلدانهم.

"طوفان الأقصى": أولويات إقليمية جديدة

لقد أحدثت عملية "طوفان الأقصى" تحولًا جوهريًا في الأولويات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، حيث قدمت ديناميكيات جديدة تمامًا، وغيّرت حسابات مختلف الجهات الفاعلة. وفي حين أنها قد لا تعكس بالضرورة الاتجاهات السابقة بشكل كامل، إلا أنها أدت بالتأكيد إلى إعادة معايرة شاملة للمصالح والنُهُج المتبعة.

ففي الفترة التي سبقت عملية "طوفان الأقصى"، كان هناك توجه واضح وملحوظ نحو تهميش القضية الفلسطينية في خضم سعي الأطراف الإقليمية لتحقيق المصالح الوطنية وتعزيز التنمية الاقتصادية. إن التركيز المتزايد على التقارب الاقتصادي، والسياسات الخارجية التي تتجنب الصراعات، أدى إلى تأجيل أو إعادة تعريف قضايا جوهرية، مثل الحقوق الفلسطينية المشروعة.

وعلى سبيل المثال، استمرت اتفاقيات التطبيع، التي عُرفت باسم اتفاقيات أبراهام في عام 2020، حتى في غياب حل عادل وشامل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. إن مفهوم الاستقرار الذي تم الترويج له في ذلك الوقت كان يتجاوز إلى حد كبير تطلعات الشعب الفلسطيني؛ إلا أن عملية "طوفان الأقصى" أعادت التأكيد بقوة على الأهمية القصوى للقضية الفلسطينية وارتباطها الوثيق بالمنطقة بأسرها.

إن مستقبل التطبيع بين الحكومات العربية وإسرائيل أصبح الآن مرتبطًا بشكل أوثق بوقف العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، وإقامة مسار موثوق وفعال نحو إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة. لقد أدى الغضب الشعبي العارم، والتركيز المتزايد على القضية الفلسطينية العادلة، إلى زيادة التكلفة الدبلوماسية للتطبيع بشكل ملحوظ.

لقد أصبحت شرعية الأنظمة العربية الآن أكثر تأثرًا بموقفها من القضية الفلسطينية. وقد ازداد الوعي العام بشكل كبير، حيث أدرك المواطنون مسؤولية حكوماتهم ليس فقط عن سوء أوضاعهم المعيشية، بل أيضًا عن النتائج المترتبة على القضية الفلسطينية. وقد أدى هذا الوضع إلى وضع أصبحت فيه الحكومات العربية محاصرة بين مصالحها الذاتية (بما في ذلك الحفاظ على السلطة والنفوذ)، ومشاعر شعوبها الجياشة تجاه فلسطين.

علاوة على ذلك، بات هناك رأي عام عربي وإسلامي قوي يدعم القضية الفلسطينية بقوة ويرفض أي تطبيع على حساب الحقوق الفلسطينية المشروعة. وفي حين أن قدرة الرأي العام على إملاء السياسة بشكل مباشر تظل مقيدة بالمخاوف الاجتماعية والاقتصادية ونقص الحريات؛ ومع ذلك، فإنه يشكل عاملًا مهمًا يجب على الحكومات أن تأخذه في الاعتبار وتتعامل معه بجدية.

إن إمكانية تراكم الغضب والاستياء الشعبي بشأن القضية الفلسطينية، على غرار الانتفاضات العربية التي شهدتها المنطقة، يشكل مصدر قلق بالغ للحكومات العربية.

وخلاصة القول: إن مستقبل التطبيع العربي الإسرائيلي سوف يتشكل من خلال التفاعل المعقد بين المصالح الإستراتيجية المستمرة للدول العربية في مجالات حيوية، مثل الأمن والاقتصاد، وعودة القضية الفلسطينية إلى الواجهة كقضية مركزية وجوهرية، والديناميكيات المعقدة للعلاقات السعودية الإيرانية ومنظورهما المشترك بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والاستقرار الإقليمي الأوسع، والتأثير المتزايد للمشاعر العامة.

لقد سلط الصراع الضوء على الترابط الوثيق بين القضايا الإقليمية المختلفة، مما يجعل من الصعب معالجتها بمعزل عن بعضها البعض. لقد أثرت الأحداث المأساوية في غزة بشكل مباشر على الأمن القومي المصري، وهددت اتفاقية السلام الموقعة بين البلدين، مما يؤكد الحاجة الملحة إلى إيجاد حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية. لقد اكتسبت الأبعاد الإقليمية العربية والإسلامية أهمية قصوى، مما يوفر غطاءً ودعمًا محتملين لمعالجة مثل هذه القضايا المترابطة والمعقدة.

وفي حين تظل المصالح الوطنية هي العامل الأساسي الذي يحدد السياسة الخارجية للدول، فقد توسع تعريفها ليشمل موضوعات وقضايا كانت مهمشة في السابق.

لقد كان التركيز على التقارب والتكامل الاقتصادي اتجاهًا مهمًا في السنوات التي سبقت عملية "طوفان الأقصى"، وقد تم اختباره بقوة من خلال هذه العملية. لقد كشف الصراع عن هشاشة مثل هذه التحالفات والاتفاقيات، إذ يمكن بسهولة تعطيلها من قبل جهات غير حكومية حتى لو كانت ضعيفة نسبيًا.

كما أبرز التناقضات المتأصلة في الأجندات السياسية المختلفة. فعلى سبيل المثال، يخلق التطبيع بين بعض الدول العربية وإسرائيل تناقضًا صارخًا مع موقف إيران التي تعارض بشدة وجود إسرائيل من الأساس.

كما أدت الحرب في غزة إلى تعطيل الخطط الطموحة للممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، مما سلط الضوء على الكيفية التي يمكن بها لعدم الاستقرار الإقليمي أن يقوض الأهداف الاقتصادية المشتركة.

وعلى الرغم من ضعف شبكة الوكلاء التابعة لإيران في المنطقة؛ فإن هذه الجماعات لا تزال تمتلك عناصر قوة وقدرات متعددة، مما قد يؤدي إلى زيادة نفوذها المحلي حتى في ظل تراجع دورها الإقليمي بشكل عام.

وقد أكد هذا الوضع على الضرورة الملحة لمعالجة الصراعات والحروب الأهلية المستمرة في البلدان التي تنشط فيها هذه الجماعات من أجل تحقيق الاستقرار الإقليمي الشامل والمستدام.

وفي الختام، ففي حين أن القضية الفلسطينية ربما تكون قد تعرضت للتهميش في حقبة ما قبل "طوفان الأقصى" من "الدبلوماسية الإقليمية الواقعية"، إلا أن الصراع الأخير قد أعاد التأكيد على أهميتها المحورية ومكانتها المركزية. وهي الآن تمثل عدسة حاسمة يتم من خلالها رؤية وتحليل الديناميكيات الإقليمية المختلفة، بما في ذلك جهود التطبيع واستقرار الأنظمة العربية، والعلاقات الإقليمية المتشابكة والمعقدة.

إن ترابط القضية الفلسطينية مع الاستقرار الإقليمي الأوسع، والمشاعر القوية التي تكنها الشعوب العربية والإسلامية تجاهها، يضمنان بقاءها عاملًا حاسمًا في تشكيل "الشرق الأوسط الجديد" على المدى الطويل.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة